تفسير سورة الحجر
{الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}
قوله تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ}. ذكر في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا عرفوا حقيقة الأمر تمنوا أنهم كانوا في دار الدنيا مسلمين، وندموا على كفرهم، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ}، وقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} إلى غير ذلك من الآيات، وأقوال العلماء في هذه الآية راجعة إلى شيء واحد. لأن من يقول إن الكافر إذا احتضر وعاين الحقيقة تمنى أنه كان مسلمًا، ومن يقول إنه إذا عاين النار ووقف عليها تمنى أنه كان مسلمًا، ومن يقول إنهم إذا عاينوا إخراج الموحدين من النار تمنوا أنهم كانوا مسلمين، كل ذلك راجع إلى أن الكفار إذا عاينوا الحقيقة ندموا على الكفر وتمنوا أنهم كانوا مسلمين.
وقرأ نافع وعاصم {رُّبَمَا} بتخفيف الباء، وقرأ الباقون بتشديدها، والتخفيف لغة أهل الحجاز، والتثقيل لغة تميم وقيس وربيعة، ومن الأول قول عدي بن الرعلاء الغساني: ربما ضربة بسيف صقيل بين بصرى وطعنة نجلاه
والثاني كثير جدًا ومنه قول الآخر: ألا ربما أهدت لك العين نظرة قصاراك منها أنها عنك لا تجدى
ورب في هذا الموضع قال بعض العلماء للتكثير أي يود الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين. ونقل القرطبي هذا القول عن الكوفيين قال ومنه قول الشاعر.
ألا ربما أهدت لك العين البيت وقال بعض العلماء هي هنا للتقليل لأنهم قالوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها لشغلهم بالعذاب. فإن قيل: ربما لا تدخل إلا على الماضي فما وجه دخولها على المضارع في هذا الموضع؟ فالجواب أن الله تعالى لما وعد بوقوع ذلك صار ذلك الوعد للجزم بتحقيق وقوعه كالواقع بالفعل ونظيره قوله تعالى {أَتَى أَمْرُ اللّهِ} ونحوها من الآيات، فعبر بالماضي تنزيلًا لتحقيق الوقوع منزلة الوقوع بالفعل. قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}. هدد الله تعالى الكفار في هذه الآية الكريمة بأمره نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتركهم يأكلون ويتمتعون، فسوف يعلمون حقيقة ما يؤول إليه الأمر من شدة تعذيبهم وإهانتهم. وهددهم هذا النوع من التهديد في مواضع أخر كقوله {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ} وقوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} وقوله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} وقوله {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ} إلى غير ذلك من الآيات.
وقد تقرر في فن المعاني وفي مبحث الأمر عند الأصوليين أن من المعاني التي تأتي لها صيغة أفعل التهديد كما في الآية المذكورة وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {ذَرْهُمْ} يعني اتركهم، وهذا الفعل لم يستعمل منه إلا الأمر والمضارع، فماضية ترك، ومصدرة الترك، واسم الفاعل منه تارك، واسم المفعول منه متروك. وقال بعض العلماء: هذه الآية منسوخة بآيات السيف، والعلم عند الله تعالى. قال القرطبي: "والأمل الحرص على الدنيا والانكباب عليها والحب لها والإعراض عن الآخرة"، وعن الحسن رحمه الله أنه قال: "ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل"، وقد قدمنا علاج طول الأمل في سورة البقرة. قوله تعالى {وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}. قد يقال في هذه الآية الكريمة كيف يقرون بأنه أنزل إليه الذكر وينسبونه للجنون مع ذلك والجواب أن قولهم يا أيها الذي نزل عليه الذكر يعنون في زعمه تهكمًا منهم به، ويوضح هذا المعنى ورود مثله من الكفار متهكمين بالرسل عليهم صلوات الله وسلامه في مواضع أخر كقوله تعالى عن فرعون مع موسى قال: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} وقوله عن قوم شعيب {إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}.
قوله تعالى {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. {لَّوْ مَا} في هذه الآية الكريمة للتحضيض وهو طلب الفعل طلبًا حثيثًا. ومعنى الآية: أن الكفار طلبوا من النَّبي صلى الله عليه وسلم طلب تخصيص أن يأتيهم بالملائكة ليكون إتيان الملائكة معه دليلًا على صدقه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبين طلب الكفار هذا في آيات أخر كقوله عن فرعون مع موسى: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً}، وقوله: {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} وقوله: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} وقوله {تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً} إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أن لو تركب مع لا وما لمعنيين الأول منهما التحضيض ومثاله في لو ما في هذه الآية الكريمة ومثاله في لولا قول جرير: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضو طري لولا الكمي المقنعا
يعني فلا تعدون الكمي المقنع، المعنى الثاني هو امتناع شيء لوجود غيره وهو في لولا كثير جدًا كقول عامر بن الأكوع رضي الله عنه. تالله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
ومثاله في لو ما قول ابن مقبل: لو ما الحياء ولو ما الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري
وأما هل فلم تركب إلا مع لا وحدها للتحضيض.
تنبيه
قد ترد أدوات التحضيض للتوبيخ والتنديم، فتختص بالماضي أو ما في تأويله نحو {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} وقوله: {لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} وقوله: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً}، وجعل بعضهم منه قول جرير: تعدون عقر النيب: البيت المتقدم آنفا
قائلًا إن مراده توبيخهم على ترك عد الكمي المقنع في الماضي. قوله تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ}. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ما ينزل الملائكة إلا بالحق أي بالوحي وقيل بالعذاب، وقال الزمخشري: "إلا تنزيلًا متلبسًا بالحكمة والمصلحة ولا حكمة في أن تأتيكم الملائكة عيانًا تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النَّبي صلى الله عليه وسلم لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار" قال: "ومثل هذا قوله تعالى: {وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} وبين تعالى في هذه الآية الكريمة أنهم لو نزلت عليهم الملائكة، ما كانوا منظرين وذلك في قوله: